الربيع العربي- بحثًا عن الاستقرار المفقود في عالم مضطرب

لقد فاجأ انهيار النظام السوري الدوائر كافة. اكتسب نظام الأسد، في ظل غياب الإرادة الشعبية الحقيقية، نوعًا من الحصانة والاستمرارية الظاهرية. واعتمدت "الدولة المتوحشة" – كما وصفها الباحث الفرنسي ميشيل سورا في وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي – سياسة ممنهجة لإخماد أي بادرة للإرادة الشعبية، مستندةً في ذلك إلى تحالفات إقليمية ودولية تضمن لها البقاء.
لكن النظام لم يدرك أن التحالفات الخارجية وحدَها، بمعزل عن شرعية داخلية راسخة تستند إلى الرضا الشعبي، لا تكفل له الاستمرار طويلًا، فهي عُرضة للتقلبات الجيوسياسية التي تميز الوضع الإقليمي والدولي الراهن. فالغموض الاستراتيجي هو السمة البارزة لعصرنا.
وغاب عن بال الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين ارتضوا بعودة الأسد إلى العمل الإقليمي والدولي المشترك، أن هذا البطش الظاهر يخفي وراءه ضعفًا بنيويًا وهشاشة متجذرة.
يجادل كاتب هذه السطور بأن المنطقة العربية تشهد منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2010/2011 طلبًا متزايدًا على الاستقرار من قِبل جميع الأطراف الفاعلة – وطنية وإقليمية ودولية – الأمر الذي يدفعها جميعًا إلى الاستثمار فيه، إلا أن عدم إدراج تطلعات الشعوب إلى حياة كريمة، والتنافس المحموم بين هذه الأطراف حول تحديد مفهوم الاستقرار، ومحاولة فرضه قسرًا، والمقايضات المطلوبة لتحقيقه، كلها أسباب رئيسية لما بات يُعرف بـ "الإنهاك العربي".
لقد أعلن الربيع العربي عن نهاية النماذج القديمة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، في الوقت الذي تبحث فيه الشعوب عن نموذج جديد لم يتبلور بعد بشكل كامل
وبرغم قناعتي الراسخة بأن أحد أهم تداعيات الربيع العربي هو تدويل السياسات الداخلية للدول، إلا أن هذا التدويل المفرط قد أثبت – بعد عقد ونيف من الزمن – أنه يزيد من حدة عدم الاستقرار الداخلي والإقليمي، ممّا يستدعي البحث عن مقاربات أخرى تساهم في تحقيق الاستقرار الذي ينشده الجميع.
الفرضية الأساسية التي تقوم عليها هذه المقالة هي أن الاستقرار الغائب عن المنطقة على مدار السنوات الماضية يكمن في مساحة تتقاطع فيها العوامل الداخلية مع العوامل الإقليمية والدولية، وأنه بدون خلق مساحات مشتركة تتناغم فيها هذه المستويات الثلاثة، لن تنعم المنطقة بالاستقرار على المدى الطويل.
إن تعزيز الاستقرار على المدى الطويل يتطلب بالضرورة الاهتمام بالعوامل الهيكلية والبنى التحتية العميقة التي يرتكز عليها هذا المفهوم. ولا يمكن مناقشة هذه المرتكزات والأسس بمعزل عن مفهوم "فخاخ الاستقرار" الذي طرحه كاتب هذه السطور بمناسبة مرور عقد على الربيع العربي.
أقصد بمفهوم فخاخ الاستقرار: تلك الساحة التي تتراكم فيها التناقضات بين مرتكزات الاستقرار – كما تطرحها القوى الداخلية والإقليمية والدولية – والتي تتغذى أساسًا من المخاطر والتظلمات المتراكمة دون معالجة. فالواقع العربي الراهن يرتكز على بحر من التظلمات.
إن السعي المحموم لتحقيق هدف الاستقرار قصير الأجل قد يأتي في بعض الأحيان على حساب الهدف الأسمى المتمثل في تعزيز الاستقرار على المدى الطويل، وعندئذٍ فإن الأنشطة التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتلبية الاحتياجات العاجلة غالبًا ما تفشل في معالجة القضايا الهيكلية الكامنة، بل إنها قد تؤدي إلى تفاقم هذه القضايا الأساسية التي تغذي التظلمات وتزيد من حدة المخاطر.
المدخل الذي أطرحه هنا هو ضرورة الانطلاق من فهم أعمق لحقبة الربيع العربي وما خلفته من تداعيات عميقة وما أثارته من قضايا جوهرية، وأنه بدون الوصول إلى هذا الفهم الشامل مع السعي للتعبير عنه وصياغته في مشاريع لإعادة بناء الدولة العربية المأزومة؛ فسيظل ما يحكم نظرة القوى الإقليمية والدولية للمنطقة هو: "الحد من الآثار السلبية لمشاكل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مناطق أخرى من العالم".
لقد دخلت السجن في عام 2015، وكنت حينها أحاول جاهدًا وقف تمدد الثورة المضادة من خلال الحفاظ على الحراك السياسي في مصر وتعزيزه، وذلك عبر بناء توافقات بين القوى السياسية المختلفة، وخرجت في عام 2019، وهتافات الموجة الثانية من الربيع العربي لا تزال تتردد في أرجاء الجزائر، ولبنان، والعراق، والسودان. وقد أعادت سوريا هذه الروح إلى قطاعات واسعة من الجماهير العربية التي تتطلع إلى الحرية والكرامة والعيش الكريم، على الرغم من حزنها العميق على ما يجري من إبادة جماعية مروعة في غزة.
الاستقرار الذي غاب عن المنطقة في الأعوام الماضية يقع في مساحة تتقاطع فيها العوامل الداخلية مع العوامل الإقليمية والدولية، وأنه بدون خلق مساحات مشتركة تتناغم فيها هذه المستويات الثلاثة، لن تنعم المنطقة بالاستقرار على المدى الطويل
إن مشاهد الاحتجاجات العارمة والممتدة من عام 2011 حتى الآن، وعلى الرغم من الانكسارات والحروب الأهلية التي نجمت عنها، ومظاهر تفكك الدول وزيادة أعداد المهجرين، دفعتني للبحث مليًا عما أطلقت عليه في كتابي الأول بعد خروجي من السجن – والصادر عن دار المرايا بالقاهرة في عام 2021 – "سردية الربيع العربي"، وأعني بذلك جوهره الأساسي ومضمونه الحقيقي.
إن القراءة المتأنية للتاريخ تشير إلى أننا أمام عملية إعادة تشكيل للتاريخ بأكمله في المنطقة. فنحن أمام منعطف تاريخي حاسم؛ فالنموذج القديم أفضى إلى الانفجار، ولم يعد قادرًا على تقديم حلول ناجعة للتحديات المتزايدة التي تواجه المجتمع والدولة، ولكن النموذج الجديد لم يتبلور بعد بشكل كامل، وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد جازمًا، واللحظة الراهنة تزخر بالكثير من الإمكانات الكامنة التي تصب في خدمة المستقبل، وبمقدار قدرة الفواعل الاجتماعية على اقتناص مقومات هذه اللحظة الفارقة، بمقدار ما سنكون على أول طريق الاستقرار المنشود.
أدرك تمام الإدراك أن مشاريع الماضي الزائل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بمعناها الواسع؛ بل هي شكل من أشكال الحياة، ونموذج مقترح لطبيعة المجتمع وعلاقاته المتشابكة، وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة، تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع وأفراده، وتصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج. لذا فإن الحوار البناء بين النموذج الجديد القادم والنموذج القديم الزائل هو مسألة ضرورية وحتمية لتحقيق الاستقرار.
إننا نعيش فترة انتقالية بالغة الأهمية تستدعي ضرورة إدراك طبيعة هذا الزمن الانتقالي، الذي يتسم بالثقة المتبادلة بين القوى الاجتماعية والسياسية، وإدراك مصالح الجميع لدمجها بعناية فائقة في مشاريع الإصلاح الشامل.
إن سردية الانتفاضات العربية – إذن – هي بحث دؤوب عن عقد اجتماعي جديد يتم من خلاله إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد الجديد إلى مقومات أربعة أساسية: الحرية/الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية، وتبني موقف عادل وداعم لحقوق الشعب الفلسطيني.
إن هذا الحلم النبيل تستمد قوته الدافعة من أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغٍ ومؤثر. وهذا الحلم تؤيده شرائح اجتماعية واسعة، إلا أنه في الوقت نفسه يثير هواجس ومخاوف فئات أخرى من تداعياته السلبية التي باتت حقيقة واقعة في بلدانها أو في بلدان مجاورة؛ ففي رأيهم، أنه قوض الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدد من الدول، وأشعل حتى الآن ثلاث حروب أهلية مدمرة، وترك ما يزيد على 10 ملايين لاجئ، معظمهم في سوريا ولبنان والأردن وتركيا، ويحاول البعض من خلال ذلك إلصاق تهمة عدم الاستقرار وتصاعد الصراعات بحقبة الربيع العربي.
لكن هذا الحديث يغفل عددًا من الاعتبارات الجوهرية:
- أولًا: ضرورة التمييز بشكل قاطع بين جوهر الربيع العربي وبين عدم القدرة على إدارة متطلبات الفترات الانتقالية الحساسة. فالربيع العربي – كما أوضحنا سابقًا – في موجتيه السابقتين [ولا ندري ما إذا كانت سوريا تمثل بداية لموجة ثالثة أم لا؟] هو تعبير عن تطلع الشعوب العربية، وخاصة الفئات الشابة منها، إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد الشفاف، واحتجاج صريح على الفساد المستشري وسوء توزيع الدخل القومي.
وهو تعبير صادق – من وجهة نظري – عن تحول تاريخي عميق تشهده المنطقة، ويعلن نهاية النماذج القديمة في السياسة والثقافة والاقتصاد والمجتمع، وبحث جاد عن نموذج جديد لم يتبلور بعد بشكل كامل.
وهو إعلان واضح عن نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة واعدة، فالمنطقة برمتها تعيش في طور انتقالي دقيق بين الحقبتين: الحقبة القديمة الزائلة والحقبة الجديدة التي لم تتأسس بعد بشكل كامل. ومن ثم، فإننا نعيش مرحلة "خلو العرش" بتعبير زيجموند باومان في كتابه الشهير الحداثة والهولوكوست.
أما الفشل الذريع في إدارة الفترات الانتقالية، فحدث ولا حرج، ومن جانب جميع الأطراف؛ فقوى التغيير لم تدرك طبيعة الزمن الانتقالي الحساس، فلم تسعَ جاهدة إلى بناء التوافقات الضرورية، بل تعصبت لآرائها وأفكارها.
- ثانيًا: يتسم الطور الانتقالي العربي – أيضًا – بأن الدولة باتت محل تساؤل ونقاش مستمر، بحيث يصير المطلوب بإلحاح بناؤها من جديد بإعادة التفكير فيها بشكل جذري. فالتحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر عربي، هو تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي ذي جوهر اجتماعي عميق؛ وأحد أهم شروط نجاحه هو إعادة بناء الدولة على أسس جديدة؛ ولكن من خلال طرح صيغ جديدة ومبتكرة لإعادة البناء والتأسيس.
لقد انتهت صلاحية صيغة دولة ما بعد الاستقلال، ويجري ذلك في ظل تحلل واضح لمفهوم الدولة في مخيال المواطن العربي، وتبديد للرأسمال التاريخي القيّم الذي أنجز على مدار القرن الأخير في بعض الأقطار، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت إلى قيام الدولة بأداء وظائفها باستقلالية تامة عن توجهات النظام السياسي الحاكم.
لقد بتنا الآن أمام معضلة حقيقية تصيب معظم الدول العربية، وهي أن استمرار الدولة مرهون بشكل كامل باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية بغيضة وقبلية مقيتة وإثنية متطرفة وجهوية ضيقة الأفق ومذهبية متعصبة.
- ثالثًا: لقد جاءت الموجة الثانية في عامي 2018 و2019 لتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن النظم الاستبدادية، مهما بدت "مستقرة"، فإنها غير مستدامة على الإطلاق، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال كبح النضال المستميت من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية الحقة، وأن الطريق الوحيد المؤدي إلى الاستقرار الدائم على المدى الطويل في المنطقة هو من خلال التزام ديمقراطي حقيقي قادر على تحقيق الإنجاز الاقتصادي المستدام طويل الأمد.
فالربيع العربي، جاء – كما أوضحنا سابقًا – تتويجًا للإخفاقات المتراكمة للنخبة الحاكمة في بناء الدولة وتكريس التوافق حولها. لقد أعلنت المظاهرات واسعة النطاق، التي قادها الشباب المحبطون واليائسون، عن سقوط المبادئ والقيم التي قامت عليها دول المنطقة، وأظهرت كذلك الحدود القصوى للإكراه والقمع والمركزية والمحسوبية في هيكل الحكم القائم في المنطقة، وكشفت أيضًا عن انخفاض حاد في مستويات الالتزام بهياكل الدولة والعقود الاجتماعية القائمة.
- رابعًا: إذا تخيلنا أن تغليب كفة الاستقرار على كفة الديمقراطية قد يؤدي إلى القضاء على الإرهاب – كما هو معتقد سائد لدى بعض الدول الغربية – فإن المتغير الوحيد الذي ارتبط بشكل ثابت بعدد الإرهابيين كان مؤشر بيت الحرية للحقوق السياسية والحريات المدنية، والذي يشير بوضوح إلى أن البلدان التي تتمتع بقدر أكبر من الحرية تكون أقل عرضة لأن تصبح مسقط رأس للإرهابيين الدوليين.
- خامسًا: لقد حكمَ علاقة القوى الكبرى بالمنطقة بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة منطقُ الحفاظ على الوضع القائم، وقد مثّل تدخل الرئيسين بوش الابن – بعد هجمات سبتمبر/أيلول عام 2001 – وأوباما – أثناء انتفاضات الربيع العربي – استثناءً واضحًا من ذلك.
وبعبارة أخرى موجزة، هناك طلب متزايد من الفاعلين الدوليين جميعًا على تحقيق الاستقرار في المنطقة، ولكن لم يكن بوسعهم إلا التركيز بشكل أساسي على دعم الأنظمة الاستبدادية القائمة التي تصوروا خطأً أنها يمكن أن تجلب الاستقرار المنشود.
وبات عليهم اليوم أن يتقبلوا "زمن الاضطرابات" العربي المستمر باعتباره ظاهرة تاريخية لا يمكن تجنبها، ويكون للجهات الخارجية تأثير محدود للغاية عليها، هذا إن وُجد أي تأثير على الإطلاق. لقد أصبح هدفهم الأساسي ألا تُحاول بأي شكل من الأشكال "إصلاح" المنطقة، بل الحد قدر الإمكان من الآثار السلبية لمشاكل الشرق الأوسط المتفاقمة على مناطق أخرى من العالم.
والخلاصة التي توصلنا إليها بعد دراسة متأنية لحقبة الربيع العربي وتأكيدها في الدرس السوري هي:
- في الزمن الانتقالي – الذي هو زمن مؤقت يمهد الطريق لحقبة جديدة واعدة – يتطلب تحقيق الاستقرار المنشود توافقًا مؤقتًا بين القديم والجديد على بناء الدولة، بما يعنيه ذلك من عناصر للاستمرارية لبعض جوانب النموذج القديم وإدخال تغييرات جوهرية مستوحاة من النموذج الجديد.
- إن الاستقرار له أبعاد دولية وإقليمية واضحة؛ إلا أنه في جوهره مطلب محلي تحدد مكوناته التوافقات بين الفئات الاجتماعية حول طبيعة العقد الاجتماعي الذي يتم التوصل إليه في مرحلة تاريخية معينة. ويتمثل دور الأنظمة السياسية في التعبير عن لحظة التوافق هذه في دساتير مُحكمة وقوانين عادلة وسياسات عامة تضمن صيانته والحفاظ عليه.
- إن البحث عن الاستقرار هو أمر مفهوم تمامًا ومطلب مشروع لجميع الفواعل – المحلية والدولية والإقليمية – إلا أن دعم عودة الاستبداد بأي شكل من الأشكال واستمرار التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية وعدم القدرة على تحقيق الإنجاز الاقتصادي المنشود وعدم القدرة على إدارة التنوع الديني والثقافي والعرقي، كلها عوامل تؤدي حتمًا إلى نتائج عكسية وخيمة بالنسبة للاستقرار ذاته على المدى الطويل.
هذه هي الاستنتاجات التي توصلت إليها في وقت مبكر، وقد أعادني الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا للتذكير بها، ولكن يظل التساؤل المطروح بإلحاح هو: ما هو التأثير الحقيقي لتحلل الشرق الأوسط القديم، وفي القلب منه التوحش الإسرائيلي المتصاعد – ولا أقول الهيمنة – بعد طوفان الأقصى على استقرار المنطقة بأسرها؟
إنه سؤال جدير بالمتابعة الدقيقة والتحليل المتعمق في مقال مستقل.